قصائد البحتري: جمال الشعر العباسي

قصائد البحتري: عبقرية البيان وروعة التصوير في الشعر العباسي

يُعد البحتري أحد أعظم شعراء العصر العباسي، وقد مثّل شعره قمة من قمم الإبداع في اللغة العربية، حيث امتزجت في قصائده جمالية التصوير وروعة البيان، وسلاسة الموسيقى الشعرية، ما جعله يحتل مكانة بارزة بين فحول الشعر العربي، إلى جانب المتنبي وأبي تمام. وُلِد البحتري في مدينة “منبج” السورية عام 206 هـ (821 م) وتوفي عام 284 هـ (897 م). اسمه الكامل هو الوليد بن عبيد الله البحتري، وقد لُقِّب بالبحتري نسبة إلى قبيلة “بَحتَر” الطائية.

ينتمي البحتري إلى التيار الكلاسيكي في الشعر العربي، لكنه تميز بطابعه الخاص الذي كان أقرب إلى الذوق العام، حيث حافظ على الوضوح والجزالة في التعبير، وأبدع في وصف الطبيعة والمدح والرثاء والغزل. وقد كان لتأثره بأبي تمام، الذي رعاه في بداياته الأدبية، أثر بارز في تكوينه الشعري، غير أن البحتري حافظ على تميزه بأسلوبه المرن والسلس.

الخصائص الفنية لقصائد البحتري

شكلت قصائد البحتري مثالاً للفن الشعري العربي في أوج تطوره. فقد جمع بين البلاغة والبيان وبين الإحساس العميق بجماليات اللغة. وتُظهر أشعاره خصائص فنية متعددة تميّز بها عن غيره من الشعراء، يمكن تلخيصها فيما يلي:

1. قوة الوصف

يُعد الوصف من أبرز سمات شعر البحتري، فقد أبدع في تصوير مشاهد الطبيعة والقصور والمعارك والحيوانات وصفاً حسياً بصرياً دقيقاً. ومن أشهر الأمثلة على ذلك وصفه لبركة المتوكل في قصر الخلافة، حيث جاءت الأبيات مشبعة بالصور البيانية الأخّاذة والتفاصيل الدقيقة التي تُحاكي لوحات فنية مرسومة بالكلمات:

كأنّما الفضةُ البيضاءُ سائلةٌ

من السبائكِ تجري فوقَها الذهبُ

تُصوّر هذه الأبيات المياه الجارية في البركة وكأنها مصنوعة من الفضة والذهب، وقد استخدم الشاعر صورة مبتكرة تمزج بين الضوء والحركة في مشهد غني بالتفاصيل.

2. الموسيقى الشعرية

تميّز شعر البحتري بانسيابه الموسيقي وقدرته على أسر السمع والقلب، وقد تجلّى ذلك في إتقانه للبحور الشعرية وسلاسة الوزن واستخدامه للقوافي الرقيقة التي تخلق تناغماً موسيقياً داخلياً يميز قصائده عن غيرها.

3. الوضوح والسهولة في التعبير

رغم أن البحتري عاش في عصر شهد تزايد التلاعب اللفظي والتعقيد البلاغي، إلا أنه آثر الابتعاد عن الغموض في التعبير. فقد جاءت لغته واضحة، راقية، وجزلة، أقرب إلى الذوق العربي العام. ولم يكن يغرق في التراكيب المعقدة كما فعل أستاذه أبو تمام، بل حافظ على شاعرية رشيقة وسهلة الفهم.

4. تعدد الأغراض الشعرية

كتب البحتري في أغراض متعددة من الشعر، أبرزها: المدح، الفخر، الغزل، الرثاء، والهجاء، إضافة إلى شعر الوصف والرسائل الشعرية. ويظهر تعدد أغراضه في ديوانه الشعري الذي يُعد أحد أضخم الدواوين في التراث العربي، وقد جمعه أبو بكر الصولي ورتّبه حسب الأغراض الشعرية.

البحتري في شعر المدح

برز البحتري بشكل خاص في شعر المدح، وخصوصاً مدحه للخليفة العباسي المتوكل. وقد امتاز هذا النوع من شعره بالاحتفاء بالممدوح وإضفاء صفات المثالية عليه، وكان يعتمد على المقاربة الفنية القائمة على الصور البلاغية والتشبيهات الراقية. فقد كان يصف الخلفاء وكأنهم آلهة الحرب والسلم، جامعين بين الجود والبأس، متخذين من الحلم والشجاعة سمات جوهرية.

من أشهر قصائده في المدح قصيدته في مدح المتوكل، والتي قال فيها:

يا من يرى في الضحى مصروعَ ساريةٍ

في ساحةِ المجدِ لم يَهنأ له الوسنُ

تُظهر هذه الأبيات كيف صوّر البحتري الخليفة في مشهد من المجد الذي لا ينام، معبراً عن يقظته الدائمة لحماية الدولة ورعاية شؤونها.

شعر الوصف والطبيعة عند البحتري

استلهم البحتري من الطبيعة صوراً حية في قصائده، وكان دقيق الملاحظة، بارعاً في نقل تفاصيل المشهد الطبيعي، مستخدماً مفردات تخلق إحساساً حسياً ملموساً. فكان ينقل شعور المشاهد وهو يرى الورود والأزهار والمياه والثلوج والرياح. وكان للطبيعة تأثيرٌ روحي وجمالي عميق في شعره.

في أحد أجمل مقاطع الوصف، يصف قدوم الربيع قائلاً:

أتاك الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكاً

من الحُسنِ حتى كادَ أن يتكلّما

هذا البيت وحده يُجسّد إبداع البحتري في استحضار الحياة من خلال الطبيعة. فقد جعل الربيع كائناً حياً يختال ويضحك، مستفيداً من الاستعارة والتشخيص ليبث في القارئ روح الانتعاش والجمال.

البحتري والغزل

لم يكن الغزل الغرض الأبرز في شعر البحتري، إلا أن ما نظمه في هذا الباب جاء ممتلئاً بالحب والحنين والعاطفة العذبة. وقد اتسم غزله بالعفة، ووصفه لمحاسن الحبيبة بطريقة رقيقة خالية من الابتذال، بلغة راقية تُظهر ذوق الشاعر الرفيع.

قال في إحدى قصائد الغزل:

أضْحى هواكِ لقلبي دمعُهُ ودَمهُ

فهلْ ترى لحبيبٍ في هواكِ دَمُ؟

هذا البيت يُظهر الألم العاطفي الذي يُعانيه العاشق، إذ تحوّل حبه إلى دمع ودم، في صورة درامية تعبّر عن مدى تأثير العشق على روحه وجسده.

الرثاء في شعر البحتري

عندما رثى البحتري بعض الشخصيات أو الأقارب، جاءت قصائده محمّلة بالحزن العميق والتأمل في مصير الإنسان. فقد استطاع أن يعبر عن الفقد بصدق شديد، وأن يخلّد ذكرى الراحلين بأبيات تقطر رثاءً.

من أبرز مراثيه، قصيدته في رثاء المتوكل، الذي اغتيل في حادث مأساوي، حيث قال:

بَكَتْهُ الدُّهورُ بعدَ بَكاءِ الرّدى

وذَكَرْنَ فيهِ النّدى والسُّؤْدُدا

جاءت أبيات الرثاء كأنها نوح تاريخي على رجل عظيم، معبرة عن المكانة التي كان يحتلها المتوكل في نفوس الناس، ومدى الحزن الذي خيّم على القلوب لفقده.

البحتري والتأريخ الشعري

كان البحتري أحد أوائل من استخدم الشعر لتأريخ الأحداث الهامة في الحياة السياسية والاجتماعية للعصر العباسي. وقد شكلت قصائده في هذا الباب سجلاً أدبياً وسياسياً هاماً، واحتوت على إشارات واضحة إلى البلاط العباسي، والحروب، والتحولات السياسية. وقد تناول في شعره أخبار الحملات العسكرية ومآثر الخلفاء، وهو ما يجعل من شعره وثيقة أدبية حيوية عن تاريخ ذلك العصر.

منزلة البحتري بين الشعراء

يُعتبر البحتري أحد أعمدة الشعر العربي في العصر العباسي، وغالباً ما يُذكر إلى جانب المتنبي وأبي تمام. وقد اختلف النقاد حول من هو الأجدر بالريادة بين هؤلاء الثلاثة، لكنّ كثيراً من أهل الذوق العربي يُفضلون البحتري لما اتسم به شعره من وضوح وأناقة ورقة.

قال عنه ابن رشيق القيرواني في “العمدة”:

“البحتري أحسنهم ديباجة، وأعذبهم لفظاً، وأصفاهم شعراً، وأبعدهم عن التكلف”.

كما قال الثعالبي:

“البحتري أمير البيان، إذا مدح رفع، وإذا وصف أبدع، وإذا تغزّل رقّ”.

جدول مقارن لأغراض الشعر عند البحتري

ديوان البحتري

جمع ديوان البحتري عدد كبير من القصائد التي امتدت لعشرات السنين، وقد رتّبه أبو بكر الصولي في عشرة أجزاء وفقاً للأغراض الشعرية. وهو من الدواوين التي تعكس تطور الشعر العربي في العصر العباسي، ويُعد مرجعاً أساسياً لدراسة البلاغة والشعر الكلاسيكي العربي.

وقد حظي الديوان بطبعات متعددة وتحقيقات علمية دقيقة، منها النسخة التي حققها الشاعر اللبناني “سليمان البستاني”، وكذلك النسخة التي تولى نشرها المستشرق الألماني “دي غويه” في القرن التاسع عشر.

أثر البحتري في الأدب العربي

امتد تأثير البحتري إلى ما بعد عصره، وترك بصمة قوية في الذائقة الشعرية العربية. فقد كان مدرسة قائمة بذاتها، تخرّج منها شعراء لاحقون تأثروا بجمال صوره وبلاغته. كما أن دراسته لا تزال جزءاً أساسياً من المناهج الأدبية في العالم العربي، لما يُمثله من نموذج فني متكامل.

ويُعد شعر البحتري مصدراً مهماً للباحثين والدارسين في علوم البلاغة والنقد والأدب المقارن، ومرآة ناطقة لما بلغه الشعر العربي من نضج في العصر العباسي.

المصادر:

1. أبو بكر الصولي، ديوان البحتري، تحقيق دار صادر، بيروت.

2. شوقي ضيف، العصر العباسي الأول، دار المعارف، القاهرة.